فصل: تفسير الآية رقم (104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه، تقديره‏:‏ قال الله‏.‏ وهو جواب لقوله‏:‏ ‏{‏آمنت‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ لأنه قصد بقوله ذلك طلبَ الإنجاء من الغرق اعترافاً لله بالربوبية، فكأنه وجه إليه كلاماً‏.‏ فأجابه الله بكلام‏.‏

وقال الله هذا الكلام له على لسان الملَك الموكل بتعذيبه تأييساً له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال‏:‏ ‏{‏آمنت‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ إلى آخره، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق‏.‏ ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه ‏{‏فاليوم ننجيك ببدنك‏}‏ كما سيأتي‏.‏

والاستفهام في ‏{‏ألآن‏}‏ إنكاري‏.‏ والآن‏:‏ ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏آمنتُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ تقديره‏:‏ الآن تؤمن، أي هذا الوقت‏.‏ ويقدر الفعل مؤخراً، لأن الظرف دل عليه، ولأن محط الإنكار هو الظرف‏.‏

والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي عُلق به الإنكار ليس وقتاً ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي، فيكون المعنى‏:‏ لا إيمان الآن‏.‏

والمنفي هو إيمانٌ ينجي مَن حصل منه في الدنيا والآخرة‏.‏ وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت‏.‏ وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبتُ الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.‏

و ‏(‏الآن‏)‏ اسم ظرف للزمان الحاضر‏.‏‏.‏‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الآن خفَّف الله عنكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين‏}‏ في موضع الحال من معمول ‏(‏تؤمن‏)‏ المحذوف، وهي موكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر، ويزيده إنكاراً أن صاحبه كان عاصياً لله ومفسداً للدين الذي أرسله الله إليه، ومفسداً في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر‏.‏

وصيغة‏:‏ ‏{‏كنتَ من المفسدين‏}‏ أبلغ في الوصف بالإفساد من‏:‏ وكنتَ مُفسداً، كما تقدم آنفاً، وبمقدار ما قدّمه من الآثام والفساد يشدّد عليه العذاب‏.‏

والفاء التي في قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ فاء الفصيحة، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن رمتَ بإيمانك بعد فوات وقته أن أُنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك، والكلام جار مجرى التهكم، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر استعارة تهكمية‏.‏

وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها، بل فيها علاقة المشابهة، لأن إخراجه إلى البر كاملاً بشكّته يشبه الإنجاء، ولكنه ضد الإنجاء، فكان بالمشابهة، استعارة، وبالضدية تهكماً، والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏ببدنك‏}‏ حال‏.‏

والأظهر أن الباء من قوله‏:‏ ‏{‏ببدنك‏}‏ مزيدة للتأكيد، أي تأكيد آية إنجاء الجسد، فيكون قوله‏:‏ ‏(‏بدنك‏)‏ في معنى البدل المطابق من الكاف في ‏{‏ننجيك‏}‏ كزيادة الباء في قول الحريري‏:‏ «فإذا هو أبو زيد بعينه ومَينه»‏.‏

والبدَن‏:‏ الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق‏.‏ والمعنى‏:‏ ننجيك وأنت جسم‏.‏ كما يقال‏:‏ دخلت عليه فإذا هو جثة، لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد، فإن كل زيادة في كلام البليغ يقصد منها معنى زائد، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز‏.‏

و ‏{‏لمن خلفك‏}‏ أي من وراءك‏.‏ والوراء‏:‏ هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي، أي من ليسوا معك‏.‏ والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط، إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحاً على شاطيء البحر غريقاً‏.‏ فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل، أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يُغلب، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود‏.‏ ولذلك كانوا يموّهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفَس الأشياء عنده، فموته بالغرق وهو يُتبع أعداءه ميتَة لا تُوَوّلُ بشيء من ذلك، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتاً كاملاً، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية‏.‏

ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج، وتلك حالة أقل خزياً من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله‏.‏

وكلمة ‏{‏فاليوم‏}‏ مستعملة في معنى ‏(‏الآن‏)‏ لأن اسم اليوم أطلق على جزء من زمن الحال مجازاً بعلاقة الكلية والجزئية‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وإنْ كثيراً من النّاس عن آياتنا لغافلون‏}‏ تذييل لموعظة المشركين، والواو اعتراضية، أو واو الحال‏.‏

والمراد منه‏:‏ دفع توهم النقص عن آيات الله عندما يحرم كثير من الناس الاهتداء بها، فهي في ذاتها دلائل هدى سواء انتفع بها بعض الناس أم لم ينتفعوا فالتقصير منهم‏.‏

واعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالةً على أن فرعون الذي أرسل إليه موسى والذي أتبع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر قد أصابه الغرق‏.‏ وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف وآية سورة البقرة‏.‏

وفرعون هذا هو منفطاح الثاني، ويقال له ‏(‏مَيْرنْبَتَا‏)‏ بياء فارسية أو ‏(‏منفتاح‏)‏، أو ‏(‏منيفتا‏)‏ وهو ابن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم ‏(‏سَيْزُوسْتريس‏)‏، من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية، وكانوا في حدود سنة1491 قبل المسيح‏.‏

قال ابن جُريج‏:‏ كان فرعون هذا قصيراً أحمر فلا نشك في أن منفطاح الثاني مات غريقاً في البحر، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدُفن في وادي الملوك في صعيد مصر‏.‏ فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبرُه هناك، وذلك يومئ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليومَ نُنَجّيك ببدنك لتكونَ لمن خلفك آية‏}‏‏.‏ ووجود قبر له إن صح بوجه محقق، لا ينافي أن يكون مات غريقاً، وإن كان مؤرخو القبط لم يتعرضوا لصفة موته، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون من صفات بنوة الآلهة‏.‏

وخلفتْه في ملك مصر ابنته المسماة ‏(‏طوسير‏)‏ لأنه تركها وابناً صغيراً‏.‏

وقد جاء ذكر غرق فرعون في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق‏.‏

ومن دقائق القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم نُنجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية‏}‏ وهي عبارة لم يأت مثلها فيما كتب من أخبار فرعون، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي‏.‏ والظاهر أن الأمواج ألْقَت جثّته على الساحل الغربي من البحر الأحمر فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقُوا بعده بمدينة مصر لما استبطأوا رجوعه ورجوع جيشه، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أكُفاركم خير من أولئكم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏‏.‏

فلما ضرب الله مثل السوء أتْبعَه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق، ليكون ذلك ترغيباً للمشركين في الإيمان، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة‏.‏

فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بَوأهم مُبَوّأ صدق عقب مجاوزتهم البحر غرَققِ فرعون وجنوده، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شؤونهم، ورُزقوا المنّ والسَّلوى، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة‏.‏

فما زالوا يتدرّجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مُبَوّأ الصدق‏.‏

والرزقُ‏:‏ من الطيبات‏.‏

فمعنى ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ أولئك ولا مَن خلفهم من أبنائهم وأخلافهم‏.‏

والتبوّؤ تقدم آنفاً، والمُبَوّأ‏:‏ مكان البَوْء، أي الرجوع، والمراد المسكن كما تقدم، وإضافته إلى ‏(‏صدق‏)‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة، ويجوز أن يكون المبوّأ مصدراً ميمياً‏.‏ والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنّ لهم قَدَمَ صدق عند ربهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏ والمراد بمبوأ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون مشارقَ الأرض ومغاربَها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏‏.‏

وتفريع قوله‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ على ‏{‏بوأنا‏}‏ وما عطف عليه تفريعُ ثناء عليهم بأنهم شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوَّأهم الله حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء، فجعلوا لله شركاء، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم‏.‏ فوقع في الكلام إيجاز حذف‏.‏ وتقدير معناه‏:‏ فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم‏.‏

والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد‏.‏ وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخَلْف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل ‏(‏اكتسب‏)‏ مبالغة في ‏(‏كسب‏)‏، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أنّ ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوّأهم الله مُبوّأ صدق‏.‏

وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء‏.‏ وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله‏:‏ ‏{‏جاءهم العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعملوا بما جاؤوهم به، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد عليه الصلاة والسلام‏.‏

فعن ابن عباس‏:‏ هم اليهود الذين كانوا في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبيء يأتي، فلما جاءهم العلم، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس‏:‏ هم قريظة والنضير وبنو قينقاع‏.‏

ويجوز أن يكون العلم هو القرآن، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏ فإن البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم لأن قبل هذا قوله‏:‏ ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفاً مطهّرة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1، 2‏]‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وهذا المحمل هو المناسب لحرف ‏(‏حتى‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا حتى جاءهم العلم‏}‏‏.‏

وتعقيبُ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ بالغاية يؤذن بأنّ ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر، أي فبقوا في ذلك المُبَوّأ، وفي تلك النعمة، حتى اختلفوا فسلبت نعمتهم فإن الله سلبهم أوطانهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة‏}‏ تذييل وتوعد، والمقصود منه‏:‏ أن أولئك قوم مضَوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله‏:‏ ‏{‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 134‏]‏، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة‏.‏

و ‏(‏بينَ‏)‏ ظرفُ مكان للقضاء المأخوذ من فعل ‏(‏يَقضي‏)‏ ففعل القضاء كأنه متخلّل بينهم لأنه متعلق بتبيين المحق والمبطل‏.‏

وضمير ‏{‏بينهم‏}‏ عائد إلى ما يفهم من قوله‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ من وُجود مخالف ‏(‏بكسر اللام‏)‏ ومخالَف ‏(‏بفتحها‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلاً لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم‏.‏ انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل ما حل بالأمم المماثلة لهم، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد من ‏{‏ما أنزلنا إليك‏}‏ هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام وهو ما أنزل في هذه السورة من القصص‏.‏

ثم أن الآية تحتمل معنيين لا يستقيم ما سواهما؛ أولهما‏:‏ أن تبقى الظرفية التي دلت عليها ‏(‏في‏)‏ على حقيقتها، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه، أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك، أي يشكون في وقوع هذه القصص، كما يقال‏:‏ دخل في الفتنة، أي في أهلها‏.‏ ويكون معنى ‏{‏فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به، فيزول الشك من نفوس أهل الشك إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار‏.‏ فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعاً لمعذرتهم‏.‏

وثانيهما‏:‏ أن تكون ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التعريض لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة‏.‏ وهذه طريقة في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكُونَنّ من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ أو كان في ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه كما في قصة الخصم من اللذين اختصما إلى داود المذكورة في سورة ص‏.‏

وكلا الاحتمالين يلاقي قوله‏:‏ ‏{‏فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب، وأنهم يشهدون به، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها‏.‏ وغير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية، ويقتضي أن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم لمكان قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏‏.‏

وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب، لأن قوله‏:‏ ‏{‏مما أنزلنا إليك‏}‏ يناكد ذلك إلا بتعسف‏.‏

وإنما تكون جملة‏:‏ ‏{‏فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ جواباً للشرط باعتبار ما تفيده مادة السؤال من كونهم يجيبون بما يزيل الشك، فبذلك يلتئم التلازم بين الشرط والجواب، كما دلت عليه جملة‏:‏ ‏{‏لقد جاءك الحق من ربك‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فاسأل‏}‏ بهمزة وصل وسكون السين وهمزة بعد السين‏.‏ وقرأه ابن كثير والكسائي ‏{‏فسَل‏}‏ بفتح السين دون همزة الوصل وبحذف الهمزة التي بعد السين مخفف سَأل‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏لقد جاءك الحق من ربك‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال ناشئ عن الشرط وجوابه، كأنّ السامع يقول‏:‏ فإذا سألتهم ماذا يكون، فقيل‏:‏ لقد جاءك الحق من ربك‏.‏

ولما كان المقصود من ذلك علم السامعين بطريق التعريض لا علم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ليس بمحل الحاجة لإعلامه بأنه على الحق قرنت الجملة بحرفي التأكيد، وهما‏:‏ لام القسم وقد، لدفع إنكار المعرّض بهم‏.‏

وبذلك كان تفريع ‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏ تعريضاً أيضاً بالمشركين بأنهم بحيث يُحذر الكون منهم‏.‏

والامتراء‏:‏ الشك فيما لا شبهة للشك فيه‏.‏ فهو أخص من الشك‏.‏

وكذلك عطف ‏{‏ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله‏}‏ وهو أصرح في التعريض بهم ‏{‏فتكون من الخاسرين‏}‏‏.‏ وهذا يقتضي أنهم خاسرون‏.‏ ونظيره ‏{‏لئن أشركت ليحبطنّ عملُك ولتكوننّ من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏، وحاصل المعنى‏:‏ فإن كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلَكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تكونوا شاكّين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

تبين تناسب هذه الآية مع التي قبلها بما فسرنا به الآية السابقة فإنه لما سبق التعريض إلى المشركين الشّاكّين في صدق النبي صلى الله عليه وسلم والاستشهاد عليهم في صدقه بشهادة أهل الكتاب أعقب ذلك بأنهم من زمرة الفرق الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا، فهم لا تجدي فيهم الحجة لأنهم أهل مكابرة، وليسوا طالبين للحق لأن الفطرة التي فطرت عليها عقولهم غيرُ قابلة لحقائق الإيمان، فالذين لم يؤمنوا بما يجيء من الآيات هم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون، تلك أماراتهم‏.‏ وهذا مَسوق مساق التأييس من إيمانهم‏.‏

ومعنى ‏(‏حقت‏)‏ ثبتت‏.‏ و‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي، وهو تمكن الفعل الذي تعلقت به‏.‏ والمراد بكلمات الله‏:‏ أمر التكوين، وجمعت الكلمات بالنظر إلى أن متعلقها ناس كثيرون، فكل واحد منهم تحق عليه كلمة‏.‏

وقرأ غير نافع، وابن عامر ‏{‏كلمةُ ربك‏}‏ على مراعاة الجنس إذ تحق على كل أمة كلمة، وهذا الكلام عظة للمشركين‏.‏ قال غيرهم‏:‏ وتحذير من أن يكونوا مظهراً لمن حقت عليهم كلمة الشقوة وإنذار بوشك حلول العذاب بهم‏.‏

فالموصول على هذا التفسير مراد به معهود، والجملة كلها مستأنفة، و‏(‏إنّ‏)‏ للتوكيد المقصود به التحقيق، أي لا شك أن هؤلاء من أولئك فقد اتضح أمرهم واليأس من إيمانهم‏.‏

ويحتمل أن تجعل الجملة في موضع التعليل للقصص السابقة فتكون بمنزلة التذييل، والموصول للعموم الجامع جميع الأمم التي هي بمثابة الأمم المتحدث عنهم وتكون ‏(‏إن‏)‏ لمجرد الاهتمام بالخبر، فتفيد التعليل والربط، وتغني عن فاء التفريع كالتي في قول بشار‏:‏

إن ذاك النجاح في التبكير ***

كما تقدم غير مرة ويكون في الآية تعريض آخر بالمشركين‏.‏

و ‏(‏لو‏)‏ وصلية للمبالغة، أي لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية فكيف إذا لم تجئهم إلا بعض الآيات‏.‏

و ‏(‏كل‏)‏ مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال كثير في القرآن‏.‏ كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى كُلّ ضامر‏}‏ في سورة الحج ‏(‏31‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏27‏)‏، أي ولو جاءتهم آيات كثيرة تشبه في الكثرة استغراق جميع الآيات الممكن وقوعها‏.‏ وقد تقدم نظير ذلك آنفاً‏.‏

ورؤية العذاب، كناية عن حلوله بهم‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم الإيمان، لأن نزول العذاب هو ابتداء مجازاتهم على كفرهم، وليس بعد الشروع في المجازاة عفو‏.‏

ومن بركة هذا الدين أن الذين كفروا به قد هداهم الله قبل أن ينزل بهم عذاباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع التغليط على امتناع أهل القرى من الإيمان بالرسل قبل أن ينزل بهم العذاب على الإخبار بأن الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا لا يؤمنون حتى يروا العذاب فإن أهل القرى من جملة الذين حقت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا‏.‏ والغرض من ذكر أهل القرى التعريض بالمقصود، وهم أهل مكة فإنهم أهل قرية فكان ذلك كالتخلص بالتعريض إلى المخصوصين به، وللإفضاء به إلى ذكر قوم يونس فإنهم أهل قرية‏.‏

و ‏(‏لولا‏)‏ حرف يرد لمعان منها التوبيخ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط، لأن أهل القرى قد انقضوا، وذلك أن أصل معنى ‏(‏لولا‏)‏ التحضيض، وهو طلب الفعل بحَثّ، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وإذا توجه الكلام الذي فيه ‏(‏لولا‏)‏ إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه، كقوله‏:‏ ‏{‏لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 43‏]‏ وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود ‏(‏كان‏)‏ الدالة على المضي والانقضاء‏.‏ والمقصود‏:‏ التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنَن أهل القرى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما آمنتْ قبلهم من قرية أهلكناها أفَهُم يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 6‏]‏، ونظير هذه الآية استعمالاً ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم أولُوا بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب‏.‏

والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس، توقعاً لنزول العذاب، وقبل أن ينزل بهم العذاب، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى، وأن ليست لقوم يونس خصوصية، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءاً منقطعاً‏.‏

وإذ كان الكلام تغليطاً لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل، وتعريضاً بالتحذير مما وقعوا فيه‏.‏ كان الكلام إثباتاً صريحاً ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري‏:‏ «يا أهل ذا المغْنَى وقيتم ضُراً» أي كل ضر لا ضراً معيناً، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله‏:‏ ‏{‏إلا قومَ يونس‏}‏ فهذا وجه تفسير الآية‏.‏ وجرى عليه كلام العُكبري في «إعراب القرآن»، والكواشي في «التخليص» وجمهور المفسرين جعلوا جملة‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏ في قوة المنفية، وجعلوا الاستثناء منقطعاً منصوباً ولا داعي إلى ذلك‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لمّا آمنوا‏}‏ مستأنفة لتفصيل مجمَل معنى الاستثناء‏.‏ وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب‏.‏ وذلك حالهم عندما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعُدة، فيكاد يحل بهم عذاب استئصال لولا أنهم عجّلوا بالإيمان يوم الفتح‏.‏ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «أنتُم الطلقاء»

وقوم يونس هم أهل قرية نَيْنَوَى من بلاد العراق‏.‏ وهم خليط من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر‏.‏ وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرى الثامن قبل المسيح‏.‏ وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام‏.‏

ولما كذّبه أهل نَيْنَوَى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوماً، وخرج من المدينة غاضباً عليهم، فلمّا خرج خافوا نزول العذاب بهم فتابوا وآمنوا بالله فقبل الله إيمانهم ولم يعذّبهم‏.‏ والمذكور أنهم رأوا غيماً أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوماً من حين توعدهم يونس عليه السلام بحلول العذاب فعلموا أنه مقدمة العذاب فآمنوا وخضعوا لله تعالى فأمسك عنهم العذاب‏.‏ وسيجيء ذكر ما حل بيونس عليه السلام في خروجه ذلك من ابتلاع الحوت إياه في سورة الأنبياء‏.‏

والكشف‏:‏ إزالة ما هو ساتر لشيء، وهو هنا مجاز في الرفع‏.‏ والمراد‏:‏ تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلاً لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع‏.‏

والخزي‏:‏ الإهانة والذل‏.‏ وإضافة العذاب إلى الخزي يجوز كونها بيانية لأن العذاب كله خزي، إذ هو حالة من الهلاك غير معتادة فإذا قدرها الله لقوم فقد أراد إذلالهم، ويجوز أن تكون الإضافة حقيقية للتخصيص، ويكون المراد من الخزي الحالة المتصورة من حلوله‏.‏ وهي شناعة الحالة لمن يشاهدهم مثل الخسف والحرق والغرق، وأشنع الخزي ما كان بأيدي أناس مثلهم، وهو عذاب السيف الذي حل بصناديد قريش يوم بدر، والذي كاد أن يحل بجميع قريش يوم فتح مكة فنجاهم الله منه كما نجّى قوم يونس‏.‏

و ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ صفة ل ‏{‏عذاب الخزي‏}‏ للإشارة إلى أن العذاب الذي يحل بالأمم الكافرة هو عقاب في الدنيا وبعده عقاب في الآخرة، وأن الأمم التي لم تعذب في الدنيا قد أدخر لها عذاب الآخرة‏.‏

والتمتيع‏:‏ الإمهال‏.‏

وإبهام ‏{‏حين‏}‏ لأنه مختلف باختلاف آجال أحادهم، والمراد به التمتيع بالحياة لا بكشف العذاب، لأنهم بعد موتهم ناجون من العذاب إذ كانوا قد آمنوا وأخلصوا‏.‏

ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله علم أن تكذيبهم يونس عليه السلام في ابتداء دعوته لم يكن ناشئاً عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله، ولكنه كان شكاً في صدق يونس عليه السّلام‏.‏ ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى عليه السّلام وإنما حرّفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله، فإن في نَيْنَوَى كثيراً من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الأشوريين كما علمت آنفاً، فلما أوعدهم يونس عليه السّلام بالعذاب بعد أربعين يوماً ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يوماً اهتدَوا وآمنوا إيماناً خالصاً‏.‏

وثانيهما‏:‏ أن يونس عليه السّلام لمّا صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئاً من حظ النفس وإن كان لفائدة الدين، فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله، وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه، ولذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمةَ من توهم أنّ ما جرى ليونس عليه السّلام من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره فقال صلى الله عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يقول أنَا خير من يونس بن متّى» يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها‏.‏

وقد كان حال أهل مكة كحال قوم يونس إذ بادروا إلى الإيمان بمجرد دخول جيش الفتح مكة وقبل أن يقعُوا في قبضة الأسر، ولذلك لم ينج منهم عبدُ الله بن خطل، لأنه لم يأت مُؤمناً قبل أن يتمكن منه المسلمون ولم ينفعه التعلق بأستار الكعبة لأن ذلك التعلق ليس بإيمان وإنما هو من شعار العوذ في الجاهلية بما أبطله الإسلام إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الحرم لا يعيذ عاصياً» وقد بيّنّا في آخر سورة غافر ‏(‏84‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده‏}‏ إلى آخر السورة فانظره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 97‏]‏ لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه‏.‏ وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس‏.‏ وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها، وهي جملة‏:‏ ‏{‏أفأنت تكره‏}‏ المفرعة على الجملة الأولى، وهي المقصود من التسلية‏.‏

والناس‏:‏ العرب، أو أهل مكة منهم، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيّنّاه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ نوح‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏‏.‏

والتأكيد ب ‏{‏كلهم‏}‏ للتنصيص على العموم المستفاد من ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة فإنها للعموم، والتأكيد ب ‏{‏جميعاً‏}‏ لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي‏.‏

والمعنى‏:‏ لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح‏.‏

و ‏(‏لو‏)‏ تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها‏.‏ فالمعنى‏:‏ لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أفأنت تكره الناس‏}‏ الخ مفرّعة على التي قبلها، لأنّه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعاً‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أفأنت تُكره الناس‏}‏ إنكاري، فنزّل النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه‏.‏

ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، فقيل‏:‏ ‏{‏أفأنت تُكره الناس‏}‏ دون أن يقال‏:‏ أفتكره الناس، أو أفأنت مُكره الناس، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار‏.‏ وهذا تعريض بالثناء على النبي ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه، ومَن بلغ المجهود حق له العذر‏.‏

وليس تقديم المسند إليه هنا مفيداً للتخصيص، أي القصر، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر، إذ مجرد تنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه‏.‏ فما وقع في «الكشاف» من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه، لأن قرينة التقوي واضحة كما أشار إليه السكاكي‏.‏

والإكراه‏:‏ الإلجاء والقسر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏أفأنت تكره الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ لتقرير مضمونها لأن مضمونها إنكار أن يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على إلجاء الناس إلى الإيمان لأن الله هو الذي يقدر على ذلك‏.‏

ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير المخاطب، أي كيف يمكنك أن تكره الناس على الإيمان والحال أنه لا تستطيع نفس أن تؤمن إلا بإذن الله لها بالإيمان‏.‏

والإذن‏:‏ هنا إذن تكوين وتقدير‏.‏ فهو خلْق النفس مستعدة لقبول الحق مميزة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، متوصلة بالنظر الصحيح إلى معرفة ما ينبغي أن يُتبع وما لا ينبغي، متمكنة بصحة الإرادة من زجر داعية الهوى والأعراض العاجلة ومن اتباع داعية الحق والعاقبة الدائمة حتى إذا وُجه إليها الإرشاد حصل فيها الهدى‏.‏

ويومئ إلى هذا المعنى من الإذن قوله في مقابله ‏{‏ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون‏}‏ فقابَلَ هذه الحالة بحالة الذين لا يعقلون فعلم أن حالة الإيمان حالة من يعقلون، فبينت آية ‏{‏ولو شك ربك لآمن مَن في الأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ أن إيمان من لم يؤمن هو لعدم مشيئة الله إيمانه‏.‏ وبينت هذه الآية أن إيمان من آمن هو بمشيئة الله إيمانه، وكلاهما راجع إلى تقدير التكوين في النفوس والعقول‏.‏

والرجس‏:‏ حقيقته الخبث والفساد‏.‏ وأطلق هنا على الكفر، لأنه خبث نفساني، والقرينة مقابلته بالإيمان كالمقابلة التي في قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً إلى قوله‏:‏ ‏{‏فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124، 125‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ويوقع الكفر على الذين لا يعقلون‏.‏ والمراد نفي العقل المستقيم، أي الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك الحق ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي المستعمل في التمكن‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ويجعل الرجس‏}‏ بياء الغيبة، والضمير عائد إلى اسم الجلالة الذي قبله‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم ‏{‏ونجعل‏}‏ بنون العظمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

استئناف ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ الخ‏.‏ قسّم الناس إلى قسمين‏:‏ مؤمنين وكافرين، أي فادعهم إلى النظر في دلائل الوحدانية والإرشاد إلى تحصيل أسباب الإيمان ودفع غشاوات الكفر، وذلك بالإرشاد إلى النظر والاستدلال بما هو حول الإنسان من أحوال الموجودات وتصاريفها الدالة على الوحدانية، مثل أجرام الكواكب، وتقادير مسيرها، وأحوال النور والظلمة والرياح والسحاب والمطر، وكذلك البحار والجبال‏.‏

وافتتحت الجملة ب ‏{‏قل‏}‏ للاهتمام بمضمونها‏.‏ وقد عمم ما في السماوات والأرض لتتوجه كلّ نفس إلى ما هو أقرب إليها وأيسر استدلالاً عليه لديها‏.‏

والنظر‏:‏ هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له، فَجيءَ بعده بالاستفهام المعلّق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحاً للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن‏.‏

و ‏{‏ماذا‏}‏ بمعنى ما الذي، و‏(‏ما‏)‏ استفهام، و‏(‏ذا‏)‏ أصله اسم إشارة، وهو إذا وقع بعد ‏(‏ما‏)‏ قَام مقام اسم موصول‏.‏ و‏{‏في السماوات والأرض‏}‏ قائم مقام صلة الموصول‏.‏ وأصل وضع التركيب‏:‏ مَا هذا في السماوات والأرض، أي ما المشار إليه حال كونه في السماوات والأرض، فكثر استعماله حتى صار في معنى‏:‏ ما الذي‏.‏ والمقصود‏:‏ انظروا ما يدلكم على جواب هذا الاستفهام، فكل شيء له حالة فهو مراد بالنظر العقلي بتركيبه في صورة مفعولين، نحو‏:‏ انظروا الشمس طالعة، وانظروا السحاب ممطراً، وهكذا، وكل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري نحو‏:‏ انظروا إنبات الأرض بعد جدبها فهو آية على وقوع البعث‏.‏ ف ‏(‏ذا‏)‏ لما قام مقام اسم الموصول صار من صيغ العموم تشمل جميع الأجرام وأعراضها الدالة على وحدانية الله وحكمته، وأخص ذلك التأمل في خُلق النبي صلى الله عليه وسلم ونشأة دعوته، والنظر فيما جاء به‏.‏ فكل ذلك دلائل على كماله وصدقه‏.‏

وقد طوي في الكلام جواب الأمر لوقوع الأمر عقب أسباب الإيمان، فالتقدير‏:‏ انظروا تَرَوا آيات مُوصّلة إلى الإيمان‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات‏}‏ معترضة ذيلت بها جملة‏:‏ ‏{‏انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ فيجوز أن تكون متممة لمقول القول مما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ويجوز أن تكون استئناف كلام من الله تعالى‏.‏ والمعنى أبلغهم ما أمرت بتبليغه إليهم وليست تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون، أي الذين جعل الله نفوسهم لا تؤمن، ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ مفيداً أن ذلك آيات كما تقدم حَسُن وقع التعبير عنها بالآيات هنا، فمعنى ‏{‏وما تغني الآيات‏}‏‏:‏ وما يغني ما في السماوات والأرض عن قوم لا يؤمنون، فكان التعبير بالآيات كالإظهار في مقام الإضمار‏.‏

وزيدت ‏(‏النذر‏)‏ فعطفت على الآيات لزيادة التعميم في هذه الجملة حتى تكون أوسع دلالة من التي قبلها لتكون كالتذييل لها، وذلك أن القرآن جاء للناس بالاستدلال وبالتخويف ثم سجل على هذا الفريق بأنه لا تنجع فيه الآيات والأدلة ولا النذر والمخوفات‏.‏

ولفظ ‏{‏قوم لا يؤمنون‏}‏ يفيد أن انتفاء الإيمان عنهم وصف عرفوا به وأنه مستقر من نفوسهم، لأن اجتلاب لفظ ‏{‏قوم‏}‏ هنا مع صحة حلول غيره محله يشير إلى أن الوصف المذكور بعده من مقومات قوميتهم لأنه صار من خصائصهم، بخلاف ما لو قيل‏:‏ عمن لا يؤمنون‏.‏ ألا ترى إلى قول العنبري‏:‏

قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زَرافات ووُحدانا

أي قوم هذه سجيتهم‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لآياتتٍ لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏ وتقدم في هذه السورة غير مرة آنفاً‏.‏ وهو هنا أبدع لأنه عدل به عن الإضمار‏.‏ وهذا من بدائع الإعجاز هنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏ما تغني الآيات والنذر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏ باعتبار ما اشتملت عليه من ذكر النُذُر‏.‏ فهي خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أي يتفرع على انتفاء انتفاعهم بالآيات والنذر وعلى إصْرارهم أنْ يُسأل عنهم‏:‏ ماذا ينتظرون، ويجاب بأنهم ما ينتظرون إلا مِثل ما حلّ بمن قبلهم ممن سِيقت قصصهم في الآيات الماضية، ووقع الاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ لإفادتها تحقيق السؤال وهو باعتبار تحقيق المسؤول عنه وأنه جدير بالجواب بالتحْقيق‏.‏

والاستفهام مجاز تهكمي إنكاري، نزلوا منزلة من ينتظرون شيئاً يأتيهم ليؤمنوا، وليس ثمة شيء يصلح لأن ينتظروه إلا أن ينتظروا حلول مثل أيام الذين خلوا من قبلهم التي هلكوا فيها‏.‏ وضمن الاستفهام معنى النفي بقرينة الاستثناء المفرَّغ‏.‏ والتقدير‏:‏ فهل ينتظرون شيئاً مَا ينتظرون إلاّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏.‏ وأطلقت الأيام على ما يقع فيها من الأحداث العظيمة‏.‏ ومن هذا إطلاق «أيام العرب» على الوقائع الواقعة فيها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قل فانتظروا‏}‏ مفرعة على جملة‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون‏}‏‏.‏ وفصل بين المفرّع والمفرّع عليه ب ‏{‏قُل‏}‏ لزيادة الاهتمام‏.‏ ولينتقل من مخاطبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم قومه وبذلك يصير التفريع بين كلامين مختلفَي القائل شبيهاً بعطف التلقين الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏ على أن الاختلاف بين كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي والتبليغ اختلاف ضعيف لأنهما آئلان إلى كلام واحد‏.‏ وهذا موقع غريب لفاء التفريع‏.‏

وبهذا النسج حصل إيجاز بديع لأنه بالتفريع اعتبر ناشئاً عن كلام الله تعالى فكأنّ الله بلغه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلّغه قومه فليس له فيه إلاّ التبليغ، وهو يتضمن وعد الله نبيئه بأنه يرى ما ينتظرهم من العذاب، فهو وعيد وهو يتضمن النصر عليهم‏.‏ وسيصرح بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏ثم ننجي رسلنا‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ استئناف بياني ناشئ عن جملة‏:‏ ‏{‏انتظروا‏}‏ لأنها تثير سؤال سائل يقول‏:‏ ها نحن أولاء ننتظر وأنت ماذا تفعل‏.‏ وهذا مستعمل كناية عن ترقبه النصر إذ لا يظن به أنه ينتظر سوءاً فتعين أنه ينتظر من ذلك ضد ما يحصل لهم، فالمعية في أصل الانتظار لا في الحاصل بالانتظار‏.‏ و‏(‏مع‏)‏ حال مؤكدة‏.‏ و‏{‏من المنتظرين‏}‏ خبر ‏(‏إنّ‏)‏ ومفاده مفاد ‏(‏مع‏)‏ إذ ماصدق المنتظرين هم المخاطبون المنتظرون‏.‏

و ‏{‏ثم ننجّي رسلنا‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا‏}‏ لأن مثل تلك الأيام يومُ عذاب‏.‏ ولما كانوا مهددين بعذاب يحل بموضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عجل الله البشارة للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه ينجيهم من ذلك العذاب بقدرته كما أنجى الرسل من قبله‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك حقاً علينا ننجِّي المؤمنين‏}‏ تذييل‏.‏ والإشارة ب ‏{‏كذلك‏}‏ إلى الإنجاء المستفاد من ‏{‏ثم ننجِّي‏}‏‏.‏

و ‏{‏حقّاً علينا‏}‏ جملة معترضة لأن المصدر بدل من الفعل، أي حق ذلك علينا حقاً‏.‏

وجعله اللّهُ حقاً عليه تحقيقاً للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نُنَجّي المؤمنين‏}‏ بفتح النون الثانية وتشديد الجيم على وزان ‏{‏ننجي رسلنا‏}‏‏.‏ وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم ‏{‏نُنْجي المؤمنين‏}‏ بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء‏.‏ فالمخالفة بينه وبين نظيره الذي قبله تفنن، والمعنى واحد‏.‏

وكتب في المصحف ‏{‏ننج المؤمنين‏}‏ بدون ياء بعد الجيم على صورة النطق بها للاتقاء الساكنيْن‏.‏ ”

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

هذه الجملة متصلة المعنى بجملة‏:‏ ‏{‏قُل انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏، إذ المقصود من النظر المأمور به هُنالك النظرُ للاستدلال على إثبات الوحدانية، فإن جحودهم إيّاها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين‏.‏ والمراد ب«الناس» في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة، أو جميع أمة الدعوة الذين لمَّا يستجيبوا للدعوة‏.‏

و ‏(‏في‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏في شك‏}‏ للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيهاً لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة‏.‏

وعلق الظرف بذات الدين، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعني حالة حقيته‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ديني‏}‏ للابتداء المجازي، أي شككٍ آتتٍ من ديني‏.‏ وهو ابتداء يَؤول إلى معنى السببية، أي إن كنتم شاكين شكاً سببه ديني، أي يتعلق بحقيته، لأن الشك يُحمل في كل مقام على ما يناسبه، كقوله‏:‏ ‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وقد تقدم آنفاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نَزّلنا على عبدنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والشك في الدين هو الشك في كونه حقاً، وكونِه من عند الله‏.‏ وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لمَا شكُّوا في حقيته‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏ واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى‏.‏ فالتقدير الجواب‏:‏ فأنا على يقين من فساد دينكم، فلا أتبعه، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله‏.‏

ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام‏.‏ فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده، فيكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1، 2‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏لكم دينكم ولي دين‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ فيتأتى في هذه الآية غرضان‏.‏ فيكون المراد بالناس في قوله‏:‏ ‏{‏قل يأيها الناس‏}‏ جميع أمة الدعوة الذين لم يُسلموا‏.‏

والذين يعبدونهم الأصنام‏.‏ وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير‏.‏ ونظير هذا في القرآن كثير‏.‏

واختيار صلة التوفّي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تُحيي وتميت‏.‏

واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم مُعَرَّضون للموت فيقصّرون من طغيانهم‏.‏

والجمع بين نفي أن يَعبد الأصنام، وبين إثبات أنه يعبد الله؛ يقوم مقام صيغة القصر لو قال‏:‏ فلا أعبد إلا اللّهَ، فوجه العدول عن صيغة القصر‏:‏ أنّ شأنَها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالطرف المثبَت لأنه المقصود‏.‏ وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أوّلاً عدل على صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات‏.‏ فهو إطناب اقتضاه المقام، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل‏:‏

تسيل على حد الظُبَات نفوسنا *** وليست على غير الظُبات تسيل

و‏{‏أمرت‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏‏.‏

و ‏{‏أن أكون‏}‏ متعلق ب ‏{‏أمرت‏}‏ بحذف حرف الجر‏.‏ وهو الباء التي هي لتعدية فعل ‏(‏أمرت‏)‏، و‏(‏أن‏)‏ مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية‏.‏

وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق‏.‏ وفي جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا‏}‏

موقع هذه الجملة مُعضل لأن الواو عاطفة على محالة، ووقعت بعدها ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ فالأظهر أن تكون ‏(‏أنْ‏)‏ مصدرية، فوقوع فعل الطلب بعدها غير مألوف لأن حق صلة ‏(‏أنْ‏)‏ أن تكون جملة خبرية‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ قد سوغ سيبويه أن توصف ‏(‏أن‏)‏ بالأمر والنهي، لأن الغرض وصل ‏(‏أن‏)‏ بما تكون معه في معنى المصدر، وفعلا الأمر والنهي دالان على المصدر لأنه غيرهما من الأفعال اه‏.‏ يشير إلى ما في «كتاب سيبويه» «بابٌ تكون ‏(‏أنْ‏)‏ فيه بمنزلة ‏(‏أيْ‏)‏»‏.‏ فالمعنى‏:‏ وأمرت بإقامة وجهي للدين حنيفاً، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد‏.‏

وقيل الواو عطفتْ فعلاً مقدّراً يدل عليه فعل ‏(‏أمرت‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وأوحي إلي، وتكون ‏(‏أنْ‏)‏ مفسرة للفعل المقدر، لأنه فيه معنى القول دون حروفه‏.‏

وعندي‏:‏ أن أسلوب نظم الآية على هذا الوجه لم يقع إلا لمقتضًى بلاغي، فلا بد من أن يكون لصيغة ‏{‏أقم وجهك‏}‏ خصوصية في هذا المقام، فلنُعرض عمّا وقع في «الكشاف» وعن جعل الآية مثالاً لما سوغه سيبويه ولنجعل الواو متوسعاً في استعمالها بأن استعملت نائبة مَناب الفعل الذي عَطفت عليه، أي فعلَ ‏{‏أمرت‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 104‏]‏ دون قصد تشريكها لمعطوفها مع المعطوف عليه بل استعملت لمجرد تكريره‏.‏ والتقديرُ‏:‏ أمرت أنْ أقم وجهك فتكون ‏(‏أن‏)‏ تفسيراً لما في الواو من تقدير لفظ فعل ‏(‏أمرْت‏)‏ لقصد حكاية اللفظ الذي أمره الله به بلفظه، وليتأتّى عطف ‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏ عليه‏.‏ وهذا من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وقد سبق مثل هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 49‏]‏، وهو هنا أوْعب‏.‏

والإقامة‏:‏ جعل الشيء قائماً‏.‏ وهي هنا مستعارة لإفراد الوجه بالتوجه إلى شيء معين لا يترك وجهه ينثني إلى شيء آخر‏.‏ واللام للعلة، أي لأجل الدين، فيصير المعنى‏:‏ محّض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكاً في توجهك‏.‏ وهذه التمثيلية كناية عن توجيه نفسه بأسرها لأجل ما أمره الله به من التبليغ وإرشاد الأمة وإصلاحها‏.‏ وقريب منه قوله‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي لله‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏

و ‏{‏حنيفاً‏}‏ حال من ‏{‏الدين‏}‏ وهو دين التوحيد، لأنه حنف أي مال عن الآلهة وتمحض لله‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بل ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏‏.‏

نهي مؤكد لمعنى الأمر الذي قبله تصريحاً بمعنى ‏{‏حنيفاً‏}‏‏.‏ وتأكيد الفعل المنهي عنه بنون التوكيد للمبالغة في النهي عنه اعتناء بالتبرّؤ من الشرك‏.‏

وقد تقدم غير مرة أن قوله‏:‏ ‏{‏من المشركين‏}‏ ونحوَه أبلغ في الاتصاف من نحو‏:‏ لا تكن مشركاً، لما فيه من التبرؤ من الطائفة ذات نحلة الإشراك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 105‏]‏‏.‏ ولم يؤكد الفعل بنون التوكيد؛ لئلا يمنع وجودها من حذف حرف العلة بأن حذفه تخفيف وفصاحة، ولأن النهي لما اقترن بما يومئ إلى التعليل كان فيه غنية عن تأكيده لأن الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ما لا يَنفعك ولا يضرك‏}‏ يومئ إلى وجه النهي عن دعائك، إذ دعاء أمثالها لا يقصده العاقل‏.‏

و ‏{‏من دون الله‏}‏ اعتراض بين فعل ‏{‏تدع‏}‏ ومفعوله، وهو إدماج للحث على دعائه الله‏.‏

وتفريع ‏{‏فإن فعلت‏}‏ على النهيين للإشارة إلى أنه لا معذرة لمن يأتي ما نهي عنه بعد أن أكد نهيه وبينت علته، فمن فعله فقد ظلم نفسه واعتدى على حق ربه‏.‏

وأكّد الكون من الظالمين على ذلك التقدير ب ‏(‏إنّ‏)‏ لزيادة التحذير، وأُتي ب ‏(‏إذن‏)‏ للإشارة إلى سؤال مقدر كأن سائلاً سأل‏:‏ فإن فعلت فماذا يكون‏؟‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من الظالمين‏}‏ من تأكيدٍ مثل ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏من المشركين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 105‏]‏ ونظائره‏.‏

والمقصود من هذا الفرض تنبيه الناس على فظاعة عظم هذا الفعل حتى لو فعله أشرف المخلوقين لكان من الظالمين، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 106‏]‏ لقصد التعريض بإبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله، فلما أبطَلت الآية السابقة أن تكون الأصنام نافعة أو ضارة، وكان إسناد النفع أو الضر أكثر ما يقع على معنى صدورهما من فاعلهما ابتداء، ولا يتبادر من ذلك الإسناد معنى الوساطة في تحصيلهما من فاعل، عقبت جملة ‏{‏ولا تدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 106‏]‏ بهذه الجملة للإعلام بأن إرادة الله النفع أو الضر لأحد لا يستطيع غيره أن يصرفه عنها أو يتعرض فيها إلا من جعل الله له ذلك بدعاء أو شفاعة‏.‏

ووجه عطفها على الجملة السابقة لما بينهما من تغاير في المعنى بالتفصيل والزيادة، وبصيغتي العموم في قوله‏:‏ ‏{‏فلا كاشف له إلا هو‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فلا رادَّ لفضله‏}‏ الداخل فيهما أصنامهم وهي المقصودة، كما صُرح به في قوله تعالى في سورة ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن مُمسكات رحمته‏}‏

وتوجيهُ الخطاب للنبيء لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضر‏.‏ فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود‏.‏

والمس‏:‏ حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه، وقد يطلق على الإصابة مجازاً مرسلاً‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان‏}‏ في آخر سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏‏.‏

والإرادة بالخير‏:‏ تقديرُه والقصدُ إليه‏.‏ ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئاً فعله، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده‏:‏ يصيب به من يشاء من عباده‏}‏‏.‏ وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير‏}‏ ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائناً من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله، فإن التعرض حينئذٍ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما آية سورة الأنعام فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند‏.‏

والفضل‏:‏ هو الخير، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء‏.‏

وتنكير ‏(‏ضُر‏)‏ و‏(‏خير‏)‏ للنوعية الصالحة للقلة والكثرة‏.‏

وكل من جملة؛ فلا كاشف له إلا هو‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏فلا رادَّ لفضله‏}‏ جواب للشرط المذكور معها، وليس الجواب بمحذوف‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يصيب به من يشاء من عباده‏}‏ واقعة موقع البيان لما قبلها والحوصلة له، فلذلك فصلت عنها‏.‏

والضمير المجرور بالباء عائد إلى الخير، فيكون امتناناً وحثاً على التعرض لمرضاة الله حتى يكون مما حقت عليهم مشيئة الله أن يصيبهم بالخير؛ أو يعودُ إلى ما تقدم من الضر، والضمير باعتبار أنه مذكور فيكون تخويفاً وتبشيراً وتحذيراً وترغيباً‏.‏

وقد أجملت المشيئة هنا ولم تبين أسبابها ليسلك لها الناس كل مسلك يأملون منه تحصيلها في العطاء وكل مسلك يتقون بوقعهم فيها في الحرمان‏.‏

والإصابة‏:‏ اتصال شيء بآخر ووروده عليه، وهي في معنى المس المتقدم، فقوله‏:‏ ‏{‏يصيب به من يشاء‏}‏ هو في معنى قوله في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير‏}‏

والتذييل بجملة‏:‏ وهو الغفور الرحيم‏}‏ يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين، وتقصيرهم وغفلاتهم، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم‏.‏

ولولا غفرانه لَما كانوا أهلاً لإصابة الخير، لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد الذي هو الكمال عند الله، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «إني ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»

ويشير أيضاً إلى أن الله قد تجاوز عن كثير من سيئات عباده المسْرفين ولم يؤاخذهم إلا بما لا يرضى عنه بحال كما قال‏:‏ ‏{‏ولا يرضَى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، وأنه لولا تجاوزه عن كثير لمسهم الله بضر شديد في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي هو كذيل لما مضى في السورة كلها وحوصلة لما جرى من الاستدلال والمجادلة والتخويف والترغيب، ولذلك جاء ما في هذه الجملة كلاماً جامعاً وموادعة قاطعة‏.‏

وافتتاحها ب ‏{‏قل‏}‏ للتنبيه على أنه تبليغ عن الله تعالى فهو جدير بالتلقي‏.‏

وافتتاح المقول بالنداء لاستيعاء سماعهم لأهمية ما سيقال لهم، والخطاب لجميع الناس من مؤمن وكافر، والمقصود منه ابتداءً المشركون، ولذلك أطيل الكلام في شأنهم، وقد ذكر معهم من اهتدى تشريفاً لهم‏.‏

وأكد الخبر بحرف ‏{‏قد‏}‏ تسجيلاً عليهم بأن ما فيه الحق قد أبلغ إليهم وتحقيقاً لكونه حقاً‏.‏

والحق‏:‏ هو الدين الذي جاء به القرآن، ووصفه ب ‏{‏من ربكم‏}‏ للتنويه بأنه حق مبين لا يخلطه باطل ولا ريب، فهو معصوم من ذلك‏.‏

واختيار وصف الرب المضاف إلى ضمير ‏{‏الناس‏}‏ على اسم الجلالة للتنبيه على أنه إرشاد من الذي يحب صلاح عباده ويدعوهم إلى ما فيه نفعهم شأن من يربّ، أي يسوس ويدبر‏.‏

وتفريع جملة‏:‏ ‏{‏فمن اهتدى‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏قد جاءكم‏}‏ للإشارة إلى أن مجيء الحق الواضح يترتب عليه أن إتباعه غنم لمتبعه وليس مزية له على الله، ليتوصل من ذلك إلى أن المعرض عنه قد ظلم نفسه، ورتب عليها تبعة الإعراض‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لنفسه‏}‏ دالة على أن الاهتداء نعمة وغنى وأن الإعراض ضر على صاحبه‏.‏

ووجه الإتيان بطريقتي الحصر في ‏{‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ وفي ‏{‏فإنما يضل عليها‏}‏ للرد على المشركين إذ كانوا يتمطَّون في الاقتراح فيقولون‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ ونحو ذلك مما يفيد أنهم يمنون عليه لو أسلموا، وكان بعضهم يظهر أنه يغيظ النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الكفر فكان القصر مفيداً أن اهتداءه مقصور على تعلق اهتدائه بمعنى اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لنفسه‏}‏ أي بفائدة نفسه لا يتجاوزه إلى التعلق بفائدتي‏.‏ وأن ضلاله مقصور على التعلق بمعنى على نفسه، أي لمضرتها لا يتجاوزه إلى التعلق بمضرتي‏.‏

وجملة ‏{‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏من اهتدى‏}‏ فهي داخلة في حيز التفريع، وإتمام للمفرع، لأنه إذا كان اهتداء المهتدي لنفسه وضلال الضال على نفسه تحقق أن النبي صلى الله عليه وسلم غير مأمور من الله بأكثر من التبليغ وأنه لا نفع لنفسه في اهتدائهم ولا يضره ضلالهم، فلا يحسبوا حرصه لنفع نفسه أو دفع ضر عنها حتى يتمطّوا ويشترطوا، وأنه ناصح لهم ومبلغ ما في اتباعه خيرهم والإعراض عنه ضُرُّهم‏.‏

والإتيان بالجملة الاسمية المنفية للدلالة على دوام انتفاء ذلك الحكم وثباته في سائر الأحوال‏.‏

ومعنى الوكيل‏:‏ الموكول إليه تحصيل الأمر‏.‏ و‏{‏عليكم‏}‏ بمعنى على اهتدائكم فدخل حرف الجر على الذات والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏قل‏}‏ أي بلغ الناس ذلك القول ‏{‏واتّبع ما يوحى إليك‏}‏، أي اتبع في نفسك وأصحابك ما يوحى إليك‏.‏ و‏{‏اصبر‏}‏ أي على معاندة الذين لم يؤمنوا بقرينة الغاية بقوله‏:‏ ‏{‏حتى يحكم الله‏}‏ فإنها غاية لهذا الصبر الخاص لا لمطلق الصبر‏.‏

ولما كان الحكم يقتضي فريقين حذف متعلقه تعويلاً على قرينة السياق، أي حتى يحكم الله بينك وبينهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهو خير الحاكمين‏}‏ ثناء وتذييل لما فيه من العمُوم، أي وهو خير الحاكمين بين كل خصمين في هذه القضية وفي غيرها، فالتعريف في ‏{‏الحاكمين‏}‏ للاستغراق بقرينة التذييل‏.‏

و ‏{‏خير‏}‏ تفضيل، أصله أخير فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال‏.‏ والأخيرية من الحاكمين أخيرية وفَاء الإنصاف في إعطاء الحقوق‏.‏ وهي هنا كناية عن معاقبة الظالم، لأن الأمر بالصبر مشعر بأن المأمور به معتدًى عليه، ففي الإخبار بأن الله خير الحاكمين إيماء بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا‏.‏ وهذا كلام جامع فيه براعة المقطع‏.‏

سورة هود

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏

تقدم القول على الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وغيرها من نظرائها وما سورة يونس ببعيد‏.‏

‏{‏كتاب أحكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‏}‏

القول في الافتتاح بقوله‏:‏ ‏{‏كتاب‏}‏ وتنكيره مماثل لما في قوله‏:‏ ‏{‏كتاب أنزل إليك‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن القرآن كتاب من عند الله فلماذا يَعجب المشركون من ذلك ويكذبون به‏.‏ ف ‏(‏كتاب‏)‏ مبتدأ، سوغ الابتداء ما فيه من التنكير للنوعية‏.‏

ومن لدن حكيم خبير‏}‏ خبَر و‏{‏أحكمت آياته‏}‏ صفة ل ‏(‏كتاب‏)‏، ولك أن تجعل ‏{‏أحكمت آياته‏}‏ صفة مخصصة، وهي مسوغ الابتداء‏.‏ ولك أن تجعل ‏(‏أحكمت‏)‏ هو الخبر‏.‏ وتجعل ‏{‏من لدن حكيم خبير‏}‏ ظرفاً لغواً متعلقاً ب ‏{‏أحكمت‏}‏ و‏{‏فُصلت‏}‏‏.‏

والإحكام‏:‏ إتقان الصنع، مشتق من الحِكْمة بكسر الحاء وسكون الكاف‏.‏ وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرض لنوعها، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منه آيات محكمات‏}‏ في أول سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وبهذا المعنى تنبئ المقابلة بقوله‏:‏ من لدن حكيم‏}‏‏.‏

وآيات القرآن‏:‏ الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل‏.‏ وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‏}‏ في أوائل سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 39‏]‏، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

والتفصيل‏:‏ التوضيح والبيان‏.‏ وهو مشتق من الفَصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 55‏]‏‏.‏

ونظيره‏:‏ الفرق، كنى به عن البيان فسمي القرآن فُرقاناً‏.‏ وعن الفصل فسمي يوم بَدر يوم الفرقان، ومنه في ذكر ليلة القدر ‏{‏فيها يُفرق كل أمر حكيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4‏]‏‏.‏

و ‏(‏ثُم‏)‏ للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح‏.‏

و ‏{‏من لدن حكيم خبير‏}‏ أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته، وإيضاح التبيين لقوة علمه‏.‏ والخبير‏:‏ العالم بخفايا الأشياء، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز، فالحكيم مقابل ل ‏{‏أحْكمتْ‏}‏، والخبير مقابل ل ‏{‏فُصّلتْ‏}‏‏.‏ وهما وإن كانا متعلّق العلم ومتعلّق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم، إلا أنه روعي في المقابلة الفعلُ الذي هو أثرُ إحدى الصفتين أشدُّ تبادُراً فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏(‏أنْ‏)‏ تفسيرية لما في معنى ‏{‏أحكمت آياتُه ثُم فصلت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ من الدلالة على أقوال محكمة ومفصلة فكأنه قيل‏:‏ أوحي إليك في هذا الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله، فهذه الجملة تفسيرية لما أحكم من الآيات لأن النهي عن عبادة غير الله وإيجاب عبادة الله هو أصل الدين، وإليه مرجع جميع الصفات التي ثبتت لله تعالى بالدليل، وهو الذي يتفرع عنه جميع التفاصيل، ولذلك تكرر الأمر بالتوحيد والاستدلال عليه في القرآن، وأن أول آية نزلت كان فيها الأمرُ بملابسة اسم الله لأول قراءة القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والخطاب في ‏{‏ألاَّ تعبدوا‏}‏ وضمائر الخطاب التي بعده موجهة إلى الذين لم يؤمنوا وهم كل من يسمع هذا الكلام المأمور بإبلاغه إليهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنني لكم منه نذير وبشير‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ألا تعبدوا إلا الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ وجملة ‏{‏وأن استغفروا ربكم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 3‏]‏ الآية، وهو اعتراض للتحذير من مخالفة النهي والتحريض على امتثاله‏.‏

ووقوع هذا الاعتراض عقب الجملة الأولى التي هي من الآيات المحكمات إشعارٌ بأن مضمونه من الآيات المحكمات وإن لم تكن الجملة تفسيرية وذلك لأن شأن الاعتراض أن يكون مناسباً لما وقع بعده وناشئاً منه فإن مضمون البشير والنذير هو جامع عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته فهو بشير لمن آمن وأطاع، ونذير لمن أعرض وعصى، وذلك أيضاً جامع للأصول المتعلقة بالرسالة وأحوال الرسل وما أخبروا به من الغيب فاندرج في ذلك العقائد السمعية، وهذا عين الإحكام‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنني لكم منه‏}‏ ابتدائية، أي أني نذير وبشير لكم جائياً من عند الله‏.‏

والجمع بين النذارة والبشارة لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله بطريق النهي وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول، والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏

عطف على جلمة ‏{‏لا تعبدوا إلا الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2‏]‏ وهو تفسير ثان يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل، فهذا ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله تعالى، ودلائلُ على ذلك وأمثالٌ ونذر، فالمقصود‏:‏ تقسيم التفسير وهو وجه إعادة حرف التفسير في هذه الجملة وعدم الاكتفاء بالذي في الجملة المعطوف عليها‏.‏

والاستغفار‏:‏ طلب المغفرة، أي طلب عدم المؤاخذة بذنب مضى، وذلك الندم‏.‏

والتوبة‏:‏ الإقلاع عن عَمَل ذنب، والعزمُ على أن لا يعود إليه‏.‏

و ‏(‏ثُم‏)‏ للترتيب الرتبي، لأن الاعتراف بفساد ما هم فيه من عبادة الأصنام أهم من طلب المغفرة، فإنّ تصحيح العزم على عدم العودة إليها هو مسمى التوبة، وهذا ترغيب في نبذ عبادة الأصنام وبيان لما في ذلك من الفوائد في الدنيا والآخرة‏.‏

والمتاع‏:‏ اسم مصدر التمتيع لما يُتمتع به، أي يُنتفع‏.‏ ويطلق على منافع الدنيا‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والحَسَن‏:‏ تقييد لنوع المتاع بأنه الحَسن في نوعه، أي خالصاً من المكدرات طويلاً بقاؤه لصاحبه كما دل عليه قوله‏:‏ إلى أجل مسمى‏}‏‏.‏ والمراد بالمتاع‏:‏ الإبقاءُ، أي الحياة، والمعنى أنه لا يستأصلهم‏.‏ ووصفه بالحسن لإفادة أنها حياة طيبة‏.‏

و ‏{‏إلى أجل‏}‏ متعلق ب ‏{‏يمتعكم‏}‏ وهو غاية للتمتيع، وذلك موعظة وتنبيه على أن هذا المتاع له نهاية، فعلم أنه متاع الدنيا‏.‏ والمقصود بالأجَل‏:‏ أجل كل واحد وهو نهاية حياته، وهذا وعد بأنه نعمة باقية طول الحياة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يُؤْت كل ذي فضل فضله‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏يمتعكم‏}‏‏.‏ والإيتاء‏:‏ الإعطاء، وذلك يدل على أنه مِن المتاع الحسن، فيعلم أنه إعطاء نعيم الآخرة‏.‏ والفضل‏:‏ إعطاء الخير‏.‏ سمي فضلاً لأن الغالب أن فاعل الخير يفعله بما هو فاضل عن حاجته، ثم تنوسي ذلك فصار الفضل بمعنى إعطاء الخير‏.‏

والفضل الأولُ‏:‏ العمل الصالح، بقرينة مقابلته بفضل الله الغني عن الناس‏.‏

والفضل الثاني المضاف إلى ضمير الجلالة هو ثواب الآخرة، بقرينة مقابلته بالمتاع في الدنيا‏.‏ والمعنى‏:‏ ويؤت الله فضلَه كلّ ذي فَضْل في عمله‏.‏

ولما علق الإيتاء بالفضلين علم أن مقدار الجزاء بقدر المَجْزي عليه، لأنه علق بذي فضل وهو في قوة المشتق، ففيه إشعار بالتعليل وبالتقدير‏.‏ وضبط ذلك لا يعلمه إلا الله، وهو سر بين العبد وربه‏.‏ ونظير هذا مع اختلاف في التقديم والتأخير وزيادة بياننٍ، قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏

عطف على ‏{‏وأن استغفروا ربكم‏}‏ فهو من تمام ما جاء تفسيراً ل

‏{‏أحكمت آياته ثم فصلت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ وهو مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى الناس‏.‏

وتَولوا‏:‏ أصلُه تَتولوا، حذفت إحدى التائين تخفيفاً‏.‏

وتأكيد جملة الجزاء ب ‏{‏إن‏}‏ وبكون المسند إليه فيها اسماً مخبراً عنه بالجملة الفعلية لقصد شدة تأكيد توقع العذاب‏.‏

وتنكير ‏{‏يوم‏}‏ للتهويل، لتذهب نفوسهم للاحتمال الممكن أن يكون يوماً في الدنيا أو في الآخرة، لأنهم كانوا ينكرون الحشر، فتخويفهم بعذاب الدنيا أوْقع في نفوسهم‏.‏ وبذلك يكون تنكير ‏{‏يوم‏}‏ صالحاً لإيقاعه مقابلاً للجَزَاءيْن في قوله‏:‏ ‏{‏يُمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله‏}‏، فيقدّر السامع‏:‏ إن توليتم فإني أخاف عليكم عذابين كما رجوت لكم إن استغفرتم ثوابين‏.‏

ووصفه بالكبير لزيادة تهويله، والمراد بالكبر الكبر المعنوي، وهو شدة ما يقع فيه، أعني العذاب، فوصف اليوم بالكبر مجاز عقلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

جملة في موضع التعليل للخوف عليهم، فلذلك فصلت‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم صائرون إلى الله، أي إلى قدرته غير منفلتين منه فهو مجازيكم على تولّيكم عن أمره‏.‏

فالمرجع‏:‏ مصدر ميمي بمعنى الرجوع‏.‏ وهو مستعمل كناية عن لازمه العرفي وهو عدم الانفلات وإن طال الزمن، وذلك شامل للرجوع بعد الموت‏.‏ وليس المراد إياه خاصة لأن قوله‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ أنسب بالمصير الدنيوي لأنه المسلّم عندهم، وأما المصير الأخروي فلو اعترفوا به لما كان هنالك قوي مقتض لزيادة ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏‏.‏

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتقوي، وليس المراد منه الحصر إذ هم لا يحسبون أنهم مرجعون بعد الموت بله أن يرجعوا إلى غيره‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏إلى الله مرجعكم‏}‏، أي فما ظنكم برجوعكم إلى القادر على كل شيء وقد عصيتُم أمره أليس يعذبكم عذاباً كبيراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

حُول أسلوب الكلام عن مخاطبة النبي عليه الصلاة والسلام بما أمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها، فقدم لذلك إبطال وهَم من أوْهام أهل الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى، فكان قوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم‏}‏ إلخ تمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور‏}‏، جمعاً بين إخبارهم بإحاطة علم الله بالأشياء وبين إبطال توهماتهم وجهلهم بصفات الله‏.‏ وقد نشأ هذا الكلام عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 4‏]‏ لمناسبة أن المرجوع إليه لما كان موصوفاً بتمام القدرة على كل شيء هو أيضاً موصوف بإحاطة علمه بكل شيء للتلازم بين تمام القدرة وتمام العلم‏.‏

وافتتاح الكلام بحرف التنبيه ‏{‏ألا‏}‏ للاهتمام بمضمونه لغرابة أمرهم المحكي وللعناية بتعليم إحاطة علم الله تعالى‏.‏

وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإبلاغ إليهم في قوله‏:‏ ‏{‏أنْ لا تعبدوا إلا الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2‏]‏ وليس بالتفات‏.‏ وضمائر الغيبة للمفرد عائدة إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏إلى الله مرجعكم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والثّنْي‏:‏ الطّيُّ، وأصل اشتقاقه من اسم الاثنين‏.‏ يقال‏:‏ ثَنَاه بالتخفيف، إذا جعله ثانياً، يقال‏:‏ هذا وَاحد فاثْنِه، أي كن ثانياً له، فالذي يطوي الشيء يجعل أحد طاقيه ثانياً للذي قبلَه؛ فثنيُ الصدور‏:‏ إمالتها وحَنيها تشبيهاً بالطي‏.‏ ومعنى ذلك الطأطأة‏.‏

وهذا الكلام يحتمل الإجراءَ على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور‏.‏ ويحتمل أن يكون تمثيلاً لهيئة نفسية بهيئة حسية‏.‏

فعلى الاحتمال الأول‏:‏ يكون ذلك تعجيباً من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه‏.‏ وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه ويستغشي ثوبه ويحني ظهره ويقول‏:‏ هل يعلم الله ما في قلبي‏؟‏ وذلك من جهلهم بعظمة الله‏.‏

ففي «البخاري» عن ابن مسعود‏:‏ اجتمع عند البيت قريشيان وثقفي، كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم‏:‏ أترون أن الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا‏.‏ وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏

وجميع أخطاء أهل الضلالة في الجاهلية والأديان الماضية تسري إلى عقولهم من النظر السقيم، والأقيسة الفاسدة، وتقدير الحقائق العالية بمقادير متعارفهم وعوائدهم، وقياس الغائب على الشاهد‏.‏

وقد ضل كثير من فرق المسلمين في هذه المسالك لولا أنهم ينتهون إلى معلومات ضرورية من الدين تعصمهم عند الغاية عن الخروج عن دائرة الإسلام وقد جاء بعضهم وأوشك أن يقع‏.‏

وعلى الاحتمال الثاني‏:‏ فهو تمثيل لحالة إضمارهم العداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم في نفوسهم وتمويه ذلك عليه وعلى المؤمنين به بحال من يثني صدره ليخفيه ومن يستغشي ثوبه على ما يريد أن يستره به‏.‏ وهذا الاحتمال لا يناسب كون الآية مكية إذ لم يكن المشركون يومئذٍ بمصانعين للنبيء صلى الله عليه وسلم وتأويلها بإرادة أهل النفاق يقتضي أن تكون الآية مدنية‏.‏ وهذا نقله أحد من المفسرين الأولين‏.‏ وفي «أسباب النزول» للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زُهرة وكان رجلاً حُلو المنطق، وكان يظهر المودة للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو منطو على عداوته، أي عداوة الدين، فضرب الله ثني الصدور مثلاً لإضماره بغض النبي صلى الله عليه وسلم فهو تمثيل وليس بحقيقة‏.‏ وصيغة الجمع على هذا مستعملة في إرادة واحدة لقصد إبهامه على نحو قوله‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ قيل فإنه هو الأخنس بن شريق‏.‏

ووقع في «صحيح البخاري» أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ كان ناس من المسلمين يستخفون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت هذه الآية‏.‏ وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر‏.‏ فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها‏.‏ واعلم أن شأن دعوة الحق أن لا تذهب باطلاً حتى عند من لم يصدقوا بها ولم يتبعوها، فإنها تَلفت عقولهم إلى فَرض صدقها أو الاستعداد إلى دفعها، وكل ذلك يثير حقيقتها ويُشيع دراستها‏.‏ وكم من معرضين عن دعوة حق ما وسعهم إلا التحفز لشأنها والإفاقة من غفلتهم عنها‏.‏ وكذلك كان شأن المشركين حين سمعوا دعوة القرآن إذْ أخذوا يتدبرون وسائل مقاومتها ونقضها والتفهم في معانيها لإيجاد دفعها، كحال العاصي بن وائل قال لخباب بن الأرَتّ حين تقاضاه أجرَ سيف صنعه فقال له‏:‏ لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد‏.‏ فقال خَباب‏:‏ لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يحييك‏.‏ فقال العَاصي له‏:‏ إذا أحياني الله بعد موتي فسيكون لي مال فأقضيك منه‏.‏ فنزل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وهذا من سوء فهمه لمعنى البعث وتوهمه أنه يُعاد لما كان حاله في الدنيا من أهل ومال‏.‏

والاستخفاء‏:‏ الاختفاء، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب واستأخر‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ألا حين يستغشون ثيابهم‏}‏ الخ يجوز أن تكون إتماماً لجملة ‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم‏}‏ متصلة بها فيكون حرف ‏{‏ألا‏}‏ الثاني تأكيداً لنظيره الذي في الجملة قبله لزيادة تحقيق الخبر، فيتعلق ظرف ‏(‏حين‏)‏ بفعل ‏{‏يثنون صدورهم‏}‏ ويتنازعه مع فعل ‏{‏يَعلم ما يسرون‏}‏ وتكون الحالة الموصوفة حالة واحدة مركبة من ثني الصدور واستغشاء الثياب‏.‏

والاستغشاء‏:‏ التغشي بما يُغْشي، أي يستر، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل قوله‏:‏ ‏{‏واستغشوا ثيابهم‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 7‏]‏، مثل استجاب‏.‏

وزيادة ‏{‏وما يعلنون‏}‏ تصريح بما فهم من الكلام السابق لدفع توهم علمه بالخفيات دون الظاهر‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ نتيجة وتعليل للجملة قبله، أي يعلم سرهم وجهرهم لأنه شديد العلم بالخفي في النفوس وهو يعلم الجهر بالأوْلى‏.‏

فذات الصدور صفة لمحذوف يُعلم من السياق من قوله ‏{‏عَليم‏}‏ أي الأشياء التي هي صاحبة الصدور‏.‏

وكلمة ‏(‏ذات‏)‏ مؤنث ‏(‏ذو‏)‏ يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والصدور مراد بها النفوس لأن العرب يعبرون عن الحواسّ الباطنية بالصدر‏.‏

واختيار مثال المبالغة وهو عليم‏}‏ لاستقصاء التعبير عن إحاطة العلم بكل ما تسعه اللغة الموضوعة لمتعارف الناس فتقصر عن ألفاظٍ تعبر عن الحقائق العالية بغير طريقة استيعاب ما يصلح من المعبرات لتحصيل تقريب المعنى المقصود‏.‏

وذات الصدور‏:‏ الأشياء المستقرة في النفوس التي لا تعدوها‏.‏ فأضيفت إليها‏.‏